اضطراب الشخصية الحدية: بين التقلبات العاطفية وصراعات الهوية

اضطراب الشخصية الحدية: بين التقلبات العاطفية وصراعات الهوية

اضطراب الشخصية الحدية هو أحد اضطرابات الصحة النفسية المعقدة، يتميز بتقلبات عاطفية حادة، سلوكيات اندفاعية، وصعوبة في الحفاظ على علاقات مستقرة.

حيث يعاني الأفراد المصابون بـاضطراب الشخصية الحدية من شعور دائم بعدم الاستقرار في هويتهم، ومزاجهم، وصورة الذات، مما يجعل الحياة اليومية مليئة بالتحديات الداخلية والخارجية.

وتكمن أهمية الحديث عن اضطراب الشخصية الحدية في كسر حاجز الصمت والوصمة الاجتماعية التي تحيط بهذا الاضطراب. فغالبًا ما يُساء فهم من يعانون منه، ويُنظر إليهم على أنهم “مبالغون” أو “دراميون”، في حين أنهم يواجهون معاناة حقيقية تستحق التفهم والدعم.

تشير الإحصائيات إلى أن اضطراب الشخصية الحدية يصيب نحو 1.6% من البالغين في العالم، لكن النسبة قد تكون أعلى بسبب حالات غير مشخّصة. 

ويُعد هذا الاضطراب من أكثر اضطرابات الشخصية ارتباطًا بمحاولات الانتحار، ما يجعله مسألة صحية عامة تتطلب وعيًا مجتمعيًا وتدخلاً علاجيًا فعالًا. 

إن فهم اضطراب الشخصية الحدية هو خطوة أولى نحو تحسين جودة الحياة للمصابين به وتعزيز قدرتهم على الاندماج في المجتمع.

ما هو اضطراب الشخصية الحدية؟

اضطراب الشخصية الحدية (Borderline Personality Disorder – BPD) هو أحد اضطرابات الشخصية التي تُصنَّف ضمن الفئة B في دليل DSM-5 (الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية الصادر عن الجمعية الأمريكية للطب النفسي). 

ويُعرَّف اضطراب الشخصية بأنه نمط دائم من عدم الاستقرار في العلاقات الشخصية، والصورة الذاتية، والعواطف، يترافق غالبًا مع سلوكيات اندفاعية واضحة تبدأ عادةً في مرحلة البلوغ المبكر وتظهر في سياقات متعددة.

ما يميز اضطراب الشخصية الحدية عن باقي اضطرابات الشخصية هو شدة التقلبات المزاجية وسرعتها، إلى جانب الحساسية الشديدة تجاه الرفض أو الهجران، سواء كان حقيقيًا أو متخيَّلًا. 

بخلاف اضطرابات الشخصية الأخرى مثل اضطراب الشخصية النرجسية أو المعادية للمجتمع، يتمحور اضطراب الشخصية الحدية حول معاناة داخلية عميقة تتعلق بالهوية والانفصال العاطفي، وغالبًا ما يترافق مع إيذاء النفس أو محاولات الانتحار كردّ فعل على مشاعر الفراغ أو الخوف من الفقد.

أما عن سبب تسميته بـ”الحدية”، فيعود إلى الاستخدام التاريخي للمصطلح في الطب النفسي، حيث كان يُعتقد أن الأشخاص المصابين بـاضطراب الشخصية الحدية يقفون على “الحد الفاصل” بين المرض العصابي (مثل القلق والاكتئاب) والذهاني (مثل الفصام). 

ورغم تطور الفهم السريري اليوم، إلا أن الاسم بقي مستخدمًا للإشارة إلى الطابع المعقّد لهذا الاضطراب الذي يتقاطع مع أعراض عاطفية وسلوكية شديدة ومتناقضة.

اقرأ المزيد: استشارات طبية مستعجلة عن بعد من منصة حكيم كير: رعاية فورية أينما كنت

أعراض وتشخيص اضطراب الشخصية الحدية

اضطراب الشخصية الحدية

تتعدد الأعراض التي تميز اضطراب الشخصية الحدية، وتؤثر بشكل مباشر على الحياة العاطفية والاجتماعية والمهنية للمصابين. 

ويُعد فهم هذه الأعراض خطوة جوهرية في التعرف المبكر على اضطراب الشخصية الحدية والحد من تبعاته السلوكية والنفسية.

الأعراض الأساسية:

يعاني المصابون بـاضطراب الشخصية الحدية من مجموعة من الأعراض العاطفية والسلوكية، أبرزها:

  • الخوف الشديد من الهجران، حتى لو كان خياليًا، ما يدفع المصاب إلى تصرفات يائسة لتجنب الفقد.
  • علاقات شخصية غير مستقرة ومكثفة، تتأرجح بين المثالية المطلقة والاحتقار المفاجئ.
  • صورة مشوشة للذات، مع عدم استقرار في الشعور بالهوية والأهداف والقيم.
  • سلوكيات اندفاعية، مثل الإنفاق المفرط، الإدمان، أو الانخراط في علاقات جنسية غير آمنة.
  • محاولات انتحارية متكررة أو سلوكيات إيذاء النفس كرد فعل للضغوط العاطفية.
  • تقلبات مزاجية حادة وسريعة، تستمر من ساعات إلى أيام، دون وجود سبب واضح.
  • شعور دائم بالفراغ واللا معنى، يرافق الشخص أغلب الأوقات.
  • نوبات غضب شديدة وغير متناسبة مع الموقف، وقد تترافق مع فقدان السيطرة.
  • أفكار مؤقتة من جنون العظمة أو الشعور بالانفصال عن الواقع خاصة في أوقات الضغط الشديد.

معايير التشخيص:

يعتمد تشخيص اضطراب الشخصية الحدية على دليل DSM-5، والذي ينص على ضرورة وجود خمسة أعراض على الأقل من أصل تسعة لتأكيد الإصابة. يشترط أن تكون الأعراض ثابتة وعميقة الجذور في حياة المريض، وأن تظهر في أنماط سلوكية مستمرة، وليس كنتائج لظروف مؤقتة أو اضطرابات أخرى.

ويتم التشخيص عادةً من قبل أخصائي نفسي أو طبيب نفسي بعد إجراء مقابلة سريرية دقيقة، وقد يُستخدم فيها أدوات تشخيصية مساعدة، مع أخذ التاريخ النفسي والاجتماعي الكامل بعين الاعتبار.

اقرأ أكثر: الأمراض النفسية عند النساء:  10 أمراض نفسية شائعة وطرق علاجها

أسباب اضطراب الشخصية الحدية

لا يُعزى اضطراب الشخصية الحدية إلى سبب واحد محدد، بل هو نتاج تفاعل معقد بين عوامل بيولوجية ووراثية ونفسية وبيئية. 

وتشير الأبحاث إلى أن تطوّر اضطراب الشخصية الحدية يحدث عندما تتضافر هذه العوامل معًا لتؤثر في طريقة استجابة الدماغ للعواطف والتجارب.

العوامل البيولوجية:

تشير الدراسات إلى أن اضطراب الشخصية الحدية يرتبط باضطرابات في تنظيم النواقل العصبية، وخصوصًا السيروتونين، المسؤول عن تنظيم المزاج والانفعالات. 

كما أظهرت فحوصات التصوير الدماغي وجود اختلافات في بنية ووظيفة بعض مناطق الدماغ، مثل اللوزة الدماغية (Amygdala) والقشرة الجبهية الأمامية، وهي مناطق تتحكم في العاطفة واتخاذ القرار.

العوامل الوراثية:

يميل اضطراب الشخصية الحدية إلى الظهور بشكل أكبر لدى الأفراد الذين لديهم تاريخ عائلي لاضطرابات نفسية، خاصة اضطرابات المزاج أو اضطرابات الشخصية. 

ويُقدّر أن العوامل الوراثية تسهم بما يقارب 40% إلى 60% من القابلية للإصابة، وفقًا لدراسات التوائم.

العوامل البيئية والنفسية:

تلعب التجارب المبكرة دورًا محوريًا في نشوء اضطراب الشخصية الحدية. من بين هذه العوامل:

  • التعرض لصدمات في الطفولة مثل الاعتداء الجنسي، الجسدي، أو العاطفي.
  • الإهمال العاطفي أو فقدان الأمان، خاصة عند غياب العلاقة الثابتة والداعمة مع أحد الوالدين أو مقدمي الرعاية.
  • بيئة أسرية مضطربة تتسم بعدم الاستقرار، أو بالتقليل من مشاعر الطفل واحتياجاته النفسية.

توضح هذه العوامل كيف يمكن أن يتشكل اضطراب الشخصية الحدية نتيجة لتجربة نفسية مؤلمة تؤثر في تطور الجهاز العصبي، وتمنع الشخص من بناء إحساس مستقر بالذات أو الشعور بالأمان العاطفي.

للاستزادة: 10 من أعراض التصلب اللويحي يجب أن تعرفها

العلاج والتعامل مع اضطراب الشخصية الحدية

رغم تعقيد أعراضه، فإن اضطراب الشخصية الحدية قابل للعلاج، خاصة عند الالتزام بخطة علاجية شاملة ومتعددة المحاور. 

وقد أثبتت الأبحاث أن العديد من المصابين بـاضطراب الشخصية الحدية يحققون تحسنًا كبيرًا في جودة حياتهم ووظائفهم النفسية والاجتماعية عند تلقيهم العلاج المناسب.

العلاجات النفسية:

تُعد العلاجات النفسية عند الطبيب النفسيلمزيد: حجر الأساس في إدارة اضطراب الشخصية الحدية، وتشمل:

  • العلاج السلوكي الجدلي (DBT): وهو العلاج الأكثر فعالية حاليًا في التعامل مع اضطراب الشخصية الحدية، ويهدف إلى تعزيز مهارات التنظيم العاطفي، تقليل السلوكيات الانتحارية، وتحسين العلاقات.
  • العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يُستخدم لمساعدة المرضى على تعديل أنماط التفكير السلبية والمعتقدات المشوهة المرتبطة بالذات والعلاقات.
  • العلاج القائم على المخطط العلاجي (Schema Therapy): يجمع بين تقنيات التحليل النفسي والعلاج المعرفي، ويستهدف الجذور العاطفية العميقة المرتبطة باضطراب الشخصية الحدية، مثل الشعور بالنبذ والفراغ.

الأدوية:

رغم عدم وجود دواء مخصص لعلاج اضطراب الشخصية الحدية بحد ذاته، إلا أن بعض الأدوية تُستخدم لتخفيف الأعراض المصاحبة، مثل:

  • مضادات الاكتئاب لعلاج المزاج المكتئب.
  • مثبتات المزاج للحد من التقلبات العاطفية.
  • مضادات الذهان في حال وجود أعراض انفصالية أو أفكار اضطرابية.

تُستخدم هذه الأدوية بحذر، وتحت إشراف طبيب نفسي مختص، وبالاقتران مع العلاج النفسي.

اقرأ أكثر: نقص الانتباه والتركيز عند الكبار: الأسباب ال10 والأعراض وطرق العلاج الفعّالة

الدعم الأسري والاجتماعي:

يلعب الدعم العائلي والاجتماعي دورًا حاسمًا في رحلة التعافي من اضطراب الشخصية الحدية. فوجود بيئة مستقرة، خالية من الإدانة أو التقلب، يُساعد في تهدئة الأعراض وتقوية الشعور بالأمان. كما أن مجموعات الدعم التي تضم أشخاصًا يمرون بتجارب مشابهة تُساهم في تقليل الشعور بالعزلة، وتعزز التفهم الذاتي.

التعاون بين المريض، والمعالج، والعائلة، يشكل قاعدة متينة لإدارة اضطراب الشخصية الحدية وتحقيق الاستقرار العاطفي والنفسي على المدى البعيد.

اضطراب الشخصية الحدية ليس مجرد حالة من التقلبات المزاجية أو السلوكيات المتطرفة، بل هو اضطراب نفسي معقّد يؤثر بعمق على المشاعر، والسلوك، والعلاقات. 

استعرضنا في هذا المقال أهم ملامح اضطراب الشخصية الحدية، بدءًا من تعريفه الرسمي وأعراضه، مرورًا بعوامله المسببة، وصولًا إلى طرق العلاج المتاحة، والدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه الدعم الأسري والاجتماعي.

وفي ظل الوصمة المجتمعية المحيطة بالصحة النفسية، من الضروري أن نعيد النظر في طريقة فهمنا لاضطراب الشخصية الحدية.

 المصابون بهذا الاضطراب لا يبحثون عن الاهتمام أو يبالغون في ردود أفعالهم، بل يواجهون صراعًا داخليًا مرهقًا يستحق التعاطف لا الإدانة.

لذا، تبقى دعوتنا موجهة إلى كل من يعاني من اضطراب الشخصية الحدية أو يعرف شخصًا مصابًا به: اطلب المساعدة، وابحث عن العلاج، ولا تخجل من ألمك. 

فالفهم، والعلاج، والدعم الحقيقي، يمكن أن يصنعوا فارقًا حقيقيًا في حياة المصابين، ويمنحوهم فرصة حقيقية للتوازن والشفاء.

Enana Sarem
Enana Sarem

OBGYN Resident - MedTech SEO Specialist at Maps of Arabia

مقالات ذات صلة
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.تم وضع علامة * على الحقول المطلوبة